عكست حرب الخليج الثالثة مؤخراً اهمية العلم والتكنولوجيا ودورهما الهائل في تطوير التقنية والستراتيجية العسكرية الحديثة. بالمقابل نوقش في اجتماع للعلماء المسلمين عقد في تريستا ـ ايطاليا ـ في نهاية آذار (مارس) لعام 2003،
الذي نظم من قبل شبكة اكاديميات العلوم (IAP) حول افضل السبل لتحسين الحالة العلمية والتكنولوجية المتدنية في العالم الاسلامي. وضمت وفود هذا الاجتماع علماء واكاديميين ووزراء علوم من العالمين العربي والاسلامي الذين تداولوا موضوع كيفية عكس حالة الفقر التكنولوجي السائدة عند المسلمين واستخدام العلوم في المبادرة لاحداث التغيير الاجتماعي المشكلة الاساسية في المنطقة العربية، ان الدولة بكيانها البسيط وحتى الساذج، كانت تعمل في تحليل فعاليات المجتمع كافة على اسس سياسية وايديولوجية، وفشلت في النظر للعلوم والتكنولوجيا على اعتبارها فعاليات مجردة، وهذا ما ادى الى افتقار المجتمعات العربية الى نظم معرفية ومؤسسات علمية وتكنولوجية تتجذر في المجتمع وتتطور مع الوقت وتتجاذب مع التغيرات الحاصلة في العالم. والأهم من ذلك هو وضع الأسس الأولية في استخدام الادوات الضرورية والذاتية في عملية نقل وتوطين التكنولوجيا والانتاج العلمي وخلق ما يسمى بتراكم الخبرات. والمشكلة الأخرى في عموم المجتمع العربي أن الكلام حول الفقر التكنولوجي والعلمي كان يأخذ الطابع النظري ولم يترجم الى الواقع العملي ليأخذ شكل الاجراءات الضرورية واللازمة بعد عملية التغيير الطويلة بشكل تدريجي، واقتضى الأمر الكتابة والنقاش والتشخيص والتشريح والمقارنة للواقع التكنولوجي المرير بدون الارتباط العضوي، كما نراه في الدول المتقدمة كالغرب واليابان، حتى الهند وغيرها، بين هؤلاء المنظرين لمشاكل العلم والتكنولوجيا والصناعيين واصحاب القرار من السياسيين، ونظرية المؤامرة وجدت حضورها الفاعل في الواقع التكنولوجي كذلك، ولم نر من منظمات العلم والتكنولوجيا في الغرب ونقلها للعالم العربي، كمحاولة لتحسين الحركة التقنية، الا شكلاً من اشكال الاستعمار الجديد. ولم نعد نستمع الى وكالات الأمم المتحدة على اعتبار تمثيلها لرأس حربة الاستعمار الجديد، وننظر بعين الريبة الى البنك الدولي وصندوق النقد والاستفادة من هذه المؤسسات لترتيب اوضاعنا الاقتصادية في اسناد الفعالية التكنولوجية، خوفاً من ان هذه المؤسسات هي الادوات الرئيسية للغزو الاستعماري الجديد، ولم نأبه بدراسة النظم المعرفية وتركيبات المؤسسات البنوية في الدول المتطورة باسهاب وعمق، كمحاولة لنقل وتأهيل التكنولوجيا وتطبيق ما هو نافع للمنطقة، خوفا من شيء يدعى الغزو الفكري أو التسمم الثقافي. تعرض العلم والتكنولوجيا، كانتاج فكري وحضاري وعملي، في العالمين العربي والثالث (أو الفقير كتسمية حديثة له) الى حملة قتل وابادة. فقد تحول العلم والتكنولوجيا في بلداننا الى تدجينات ايديولوجية أو رؤى سياسية وتطلعات سلطوية او نزوات فردية. وهذا ما أضر بالعلم أشد ضرر وعكس حركته الى الوراء وهبوط مسيرته الى الهاوية واحداث القطيعة او الفجوة مع كثير من بلدان المعمورة وتخلفنا عن المسيرة العلمية وفقدنا ما يسمى بثقافة العلم.
العلم والتكنولوجيا عندنا لا يمثلان ثقافة مجتمعية، بل ممارسات فردية أو توجيهات سياسية تتم بشكل متقطع وغير منتظم، وتكون آثارها على المجتمع ونسيجه غير متكاملة ومتفاوتة في درجة الحدة والانتشار. ورؤية المجتمعات العربية وتطلعاتها الى العلم والتكنولوجيا ربما أشد تخلفاً من نخبها الحاكمة، ما أدى الى زيادة أمية الحرف، فضلاً عن أمية الكومبيوتر.
ومن الظواهر السلبية عدم الاخذ بالتحولات الجارية في العالم كعولمة الاقتصاد وانعكاساته على الفعاليات البشرية الاخرى وتخلف في التعليم ودور الجامعات البحثية منها في افراز الافكار التقنية والعلمية وانعكاس كل ذلك على المجتمع. كذلك فان اختفاء حرية التفكير والمبادرات الفكرية وغياب الجانب الثقافي في المجتمع جعل هذا الميدان يسير ببطء. فالتطور في صناعة الرقائق الالكترونية، مثالا لا حصرا، سيضحى في المستقبل القريب من خلال التقدم في تكنولوجيات النانو والضوء، ذات ثلاثة أبعاد، أي صنع رقائق حاوية على اجزاء متحركة بواسطة الضوء، وليس كما هو الحال في رقائق اليوم (ذات بعدين) المكونة من اجزاء ثابتة. والجدير الاشارة اليه ان الرقائق الالكترونية عبارة عن خريطة معقدة لملايين الترانزستورات تعمل كالمفاتيح في غلق وفتح المدارات الكهربائية عند معالجة المعلومات والاشارات المنتقلة بينها أثناء أداء العمليات الحسابية او التخزين وغيرها.
ومثال آخر، ابطاء سرعة الضوء (سرعة الضوء 386000 كيلومتر/الثانية) الى حد الصفر واستخدام هذه الحالة مع تطبيقات نظرية الكم لزيادة سرعة وسعة الخزن في جيل الكومبيوترات القادمة. ان الانتاج العلمي والتكنولوجي في البلدان المتطورة يساهم في نمو الافكار وولادة المفاهيم وسعة الآفاق مما يجعل المرتكزات الفكرية والمعرفية متعددة الابعاد، ما يساعد على ازدهار الحالة الثقافية العامة. وحتى لا يكون الحديث نظريا وغير واقعي بسبب الفاصلة التقنية بين البلدان المتقدمة والمنطقة العربية المتخلفة، لنأخذ أمثلة لبلدان كانت قبل فترة قصيرة متأخرة كالهند والصين. قراءة موضوعية سريعة لهذين البلدين لا تعكس فقط الرؤية الواقعية لدراسة التاريخ، وانما تنضج الفضاء الثقافي، فضلاً عن تشخيصها الحاجات الاقتصادية والاجتماعية.
ان تبلور الحاجة الاقتصادية وحالة الفقر المدقع للهنود مكنهم من تصنيع التلفزيون الملون وتصديره لروسيا، حتى يتسنى لهم بالايرادات المالية شراء الأرز والقمح والحاجات الغذائية الأخرى. ربما كان لصلابة النسيج الاجتماعي وتماسك البنية الاجتماعية بشكلهما التقليديين في المجتمع الهندي، أثر في منع انتشار ونفوذ التكنولوجيا ضمن مفردات النسيج الاجتماعي وشبكاته الاجتماعية.
أما اعادة صياغة النسيج الاجتماعي الصيني، بعد تداعيه، في حقبة الرئيس دنغ هسياو بنغ لتلبية الاحتياجات الاقتصادية، فقد مهدت الى نفوذ التكنولوجيا في مفردات النسيج الاجتماعي بشكل اعمق مما في الهند وقدمت على المدى القصير، ايجابيات جمة، وهو ما مكن الصين من قطع شوط طويل من التطوير الصناعي والتكنولوجي في فترة قصيرة، حيث يتوقع لها في غضون سنين قليلة ان تطاول القوى الفاعلة على المسرح الدولي. والاهم ربما وعي اهمية البحث العلمي وتخصيص مبالغ هائلة للميدان الذي بدأ يخلق مردودات مالية واقتصادية فضلاً عن الفكرية والعقلية.
فالعلم وحتى البحث العلمي او البحث والتطوير في البلاد العربية يأخذ الطابع التجريدي ويتم رعايته من قبل الدولة، ولا يوجد تمييز واضح بين العلم والبحث العلمي. فميدان البحث والتطوير او البحث العلمي هو مكمل لقضية العلم، لكنه في الوقت ذاته متميز عنه. فالخلط بين العلم وعمليات البحث العلمي او البحث والتطوير يفقد من اهميته عند البلدان العربية ولا يجعل له وجوداً في كل قسم او شركة من الشركات التجارية والعلمية، الاهلية والحكومية وفي قطاعات كبيرة من المجتمع كما هو موجود في الجامعات المتقدمة. فالبحث العلمي هو مفصل مهم في ماكنة العلم، فضلاً عن المفاصل الاخرى كالموارد البشرية والمادية والادارة والتنظيم ومفصل الافكار والمبادرات العقلية لجعل هذه الماكنة تعمل بكفاءة ونجاح.
في العراق والعالم العربي لم يتحول البحث العلمي الى صناعة علمية تجارية مهمة، والسبب غياب الموارد المالية واهميتها في خلق المردود الانتاجي. وعدم استثمار لقيمة الانسان وقدراته وعطاءاته خصوصاً في عصر المعلومات والمعرفة الذي يمثل رأس المال الحقيقي، والاهم ربما تخلف اساليب العمل والادارة وسوء التنظيم في قدرات وامكانيات البلد وتخصيص اولويات مواضيع البحث والتطوير.
سيحاول هذا الفصل تسليط الضوء على المشاكل المتعلقة بندرة الموارد المالية لميدان البحث العلمي وقلة الموارد البشرية المتخصصة او هجرتها من اوطانها. ويعلل لماذا فشلت الموارد البشرية والمالية الكبيرة في ميدان التصنيع العسكري في العراق في انعكاس ايجابياتها على الجانب المدني في البلد. ويرسم الفصل بعض المخططات لمحاولة اعطاء صورة محددة لأساليب التنظيم والادارة التي يتوجب الاخذ بها عند تطوير هذا الميدان، ويسرد على عجالة اهمية البحوث المشتركة وعولمة العلم والحوار العلمي مع البلدان الاخرى. ويستخدم الفصل مرادف البحث العلمي احياناً والبحث والتطوير احياناً اخرى، ويعادل بينهما لانه في الواقع العملي توجد فروقات طفيفة جداً، فالمرادف الاول يشمل البحوث القاعدية التي تتم في الجامعات والمؤسسات البحثية، بينما الثانية تستخدم اكثر في البحوث الصناعية. لم ارغب في الدراسة المطروحة في هذا الكتاب الخوض في الامور التفصيلية التي هي من شأن الدراسات العلمية والصناعية المتخصصة. الامر المهم ان البحوث القاعدية تتطلب تطوير، والتطوير الصناعي يتطلب بحثاً علمياً، ولذا مقاربتي للتساوي بين المرادفين على مستوى هذه الدراسة سليم وكاف.
والأمر الثاني في كثير من نقاشي في هذا الفصل أشير، بشكل عام، الى مشاكل العرب والمسلمين في جانب البحوث. فالعراق، بالرغم من خصوصية البحوث العسكرية في زمن صدام حسين، هو جزء من البيئة والثقافة العربية والاسلامية، ويوجد تشابه كبير فيما يتعلق بطبيعة المشاكل في هذا الميدان الحيوي
الخميس فبراير 07, 2008 2:41 pm
